فصل: اللغة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.[سورة الكهف: الآيات 71- 82].

{فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلامًا فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74) قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْ ءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِدارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77) قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79) وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْيانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْرًا مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحًا فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)}.

.اللغة:

{إِمْرًا}: الإمر العظيم المنكر، قال أبو عبيدة: الإمر الداهية العظيمة وأنشد:
قد لقي الأقران مني نكرا ** داهية دهيا وأمرا إمرا

ويقال: أمر الإمر أي عظم وتفاقم وهذه المادة اللغوية غريبة تقول الأمر بالفتح: طلب إحداث الشيء وجمعه أوامر والأمر الشأن وجمعه أمور وأولو الأمر أهل الرياسة والعلماء، والإمّر والإمّر الضعيف الرأي، والأمير الآمر، فتتغير معانيها بتغير شكلها.
{تُرْهِقْنِي}: تكلفني وفي المختار: رهقه غشيه وبابه طرب وأرهقا عسرا كلفه إياه.
{زَكِيَّةً}: طاهرة من الذنوب لأنها صغيرة لم تبلغ الحنث، وفي القاموس: زكا يزكو زكاء وزكّوا، وزكي يزكى زكى الزرع نما والرجل صلح وتنعم وزكاه اللّه بالتشديد أنماه وطهّره وأصلحه، وأخا زكاته وزكّى ماله أدّى عنه الزكاة، وزكّى نفسه مدحها.
{نُكْرًا}: بضم فسكون وبضمتين: المنكر وهو أبلغ من الإمر لأن معه القتل بخلاف خرق السفينة فإنه يمكن تداركه وتلافيه وقيل:
الإمر أبلغ لأن قتل النفس بسبب الخرق أعظم من قتل نفس واحدة.
{يُضَيِّفُوهُما}: يقال ضافه إذا كان له ضيفا وحقيقته من الميل، يقال ضاف السهم عن الغرض وأضافه وضيفه جعله ضيفا وهم ضيوف وأضياف وضيفان، ومن المجاز: أضاف إليه أمرا إذا أسنده إليه واستكفأه وفلان أضيفت اليه الأمور وما هو إلا مضاف أي دعي، ونزلت به مضوفة. قال:
وكنت إذا جاري دعا لمضوفة ** أشمر حتى يبلغ الساق مئزري

.الإعراب:

{فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها} الفاء استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة للشروع في الأمور الثلاثة التي ألمعنا إليها والتي خفيت بواطنها عن موسى وبدت له ظواهرها مستنكرة، ولابد من تقدير محذوف أي فانطلقا يمشيان ومعهما تابعهما يوشع بن نون وقد اكتفى بذكر المتبوع عن التابع أي على ساحل البحر يطلبان سفينة تقلهما فوجدا سفينة فركباها فأخذ الخضر الفأس فخرق السفينة بأن قلع لوحين من ألواحها مما يلي فجعل موسى يعارضه ويقول إلخ. وحتى حرف غاية وجر وإذا ظرف مستقبل وجملة ركبا في السفينة في محل جر بإضافة الظرف إليها، وجملة خرقها جواب إذا وهو فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به. {قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} قال- أي موسى- أخرقتها والهمزة للاستفهام الإنكاري، لتغرق اللام للتعليل وتغرق فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل وأهلها مفعول به، وسيأتي سر نسيان نفسه في باب البلاغة، واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وجئت فعل وفاعل وشيئا مفعول به وإمرا صفة. {قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} الهمزة للاستفهام التقريري ولم حرف نفي وقلب وجزم وإن واسمها وجملة لن تستطيع معي صبرا خبرها. {قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا} لا ناهية وتؤاخذني فعل مضارع مجزوم بلا والنون للوقاية والفاعل مستتر تقديره أنت والياء مفعول به. ومن أمري حال لأنه كان في الأصل صفة لعسرا وعبرا مفعول به ثان لترهقني. {فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلامًا فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا} فانطلقا الفاء للعطف وانطلقا فعل وفاعل وحتى حرف غاية وجر وإذا ظرف مستقبل وجملة لقيا مضافة للظرف وهي شرط إذا وغلاما مفعول به، والفاء حرف عطف وقتله عطف على لقيا فهو داخل في حيز فعل الشرط بخلاف قوله: {حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها} بغير فاء فقد جعله هنا جوابا والعلة في هذه المخالفة، أن خرق السفينة لم يأت عقب الركوب مباشرة أما القتل فقد أتى عقب لقاء الغلام مباشرة، وقال هو جواب إذا، أقتلت: الهمزة للاستفهام الانكاري ونفسا مفعول به وزكية صفة، وبغير نفس: الجار والمجرور في موضع نصب على الحال من الفاعل أو المفعول أي قتلته ظالما أو مظلوما أو متعلق بقتلت، واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وجئت فعل وفاعل وشيئا مفعول به ونكرا صفة. {قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} الهمزة للاستفهام التقريري ولم حرف نفي وقلب وجزم وان واسمها وجملة لن تستطيع معي صبرا خبرها، وقد زاد هنا لفظ لك لأن سبب العتاب أكثر وموجبه أقوى وقيل زاد لفظ لك لقصد التأكيد كما تقول لمن توبخه: لك أقول وإياك أعني. {قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْ ءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي} إن شرطية وسألتك فعل ماض وفاعل ومفعول به وهو في محل جزم فعل الشرط وعن شيء جار ومجرور متعلقان بسألتك وبعدها ظرف متعلق بمحذوف صفة لشيء، والفاء رابطة لجواب الشرط ولا ناهية وتصاحبني مجزوم بلا والياء مفعول به.
{قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا} قد حرف تحقيق وبلغت فعل وفاعل ومن حرف جر ولدن ظرف مبني على السكون في محل جر والجار والمجرور متعلقان ببلغت أو بمحذوف حال وعذرا مفعول به. {فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها} الفاء عاطفة وانطلقا فعل وفاعل وحتى حرف غاية وجر وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وأتيا فعل وفاعل وأهل مفعول به وقرية مضاف إليه، قيل القرية هي انطاكية ومعنى استطعما أهلها طلبا منهم الطعام على سبيل الضيافة، وجملة استطعما أهلها لا محل لها لأنها جواب إذا، واختار ابن هشام أن تكون صفة لقرية، وكرر الأهل للتأكيد من باب إقامة الظاهر مقام المضمر وقد تقدمت شواهده أو للتقصي ليشمل الاستطعام والامتناع من الإكرام جميع أهلها. {فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما} الفاء عاطفة وأبوا فعل وفاعل وأن وما في حيزها مفعول أبوا. {فَوَجَدا فِيها جِدارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ} الفاء عاطفة ووجدا فعل وفاعل وفيها جار ومجرور متعلقان بوجدا وجدارا مفعول به وجملة يريد صفة لجدارا وفي معنى إسناد الإرادة للجدار بحث ممتع يطالعه القارئ في باب البلاغة وأن وما في حيزها مفعول يريد فأقامه الفاء عاطفة وأقامه فعل وفاعل مستتر ومفعول به أي رفعه ورممه وأصلحه. {قالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} لو حرف شرط غير جازم وشئت فعل وفاعل واللام واقعة في جواب لو واتخذت فعل وفاعل والجملة لا محل لها لأنها جواب لو وعليه متعلقان بمحذوف حال وأجرا مفعول به. {قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} هذا مبتدأ والاشارة إلى الفراق المترتب على تكرار السؤال وفراق خبر وبيني مضاف إليه وساغت اضافة بين إلى غير متعدد لتكرير بين بالعطف بالواو وبينك عطف على بيني. {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} السين حرف استقبال وأنبئك فعل وفاعل مستتر ومفعول به وبتأويل الباء حرف جر دخل على مضمون المفعولين الثاني والثالث وسيأتي تفصيل ذلك في باب الفوائد وما اسم موصول مضاف إلى تأويل ولم حرف نفي وقلب وجزم وتستطع مضارع مجزوم بلم وصبرا مفعول به وعليه متعلقان بصبرا أي سأنبئك سر ما فعلت في الأمور الثلاثة. {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} أما حرف شرط وتفصيل والسفينة مبتدأ والفاء رابطة وكانت كان واسمها المستتر والتاء تاء التأنيث الساكنة ولمساكين خبر كانت والجملة خبر السفينة وجملة يعملون في البحر صفة لمساكين وفي البحر متعلقان بيعلمون. {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} الفاء عاطفة وأردت فعل وفاعل وأن أعيبها المصدر المؤول مفعول أردت والواو للحال وكان فعل ماض ناقص ووراءهم ظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم وهو بمعنى أمام ويجوز أن يكون بمعنى خلف وملك اسم كان المؤخر وجملة يؤخذ صفة وكل سفينة مفعول به وغصبا مفعول مطلق مبين لنوع الأخذ ويجوز أن يكون المصدر في موضع نصب على الحال وفي كلام تقديم وتأخير سيأتي سره العجيب في باب البلاغة.
{وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْيانًا وَكُفْرًا} الواو عاطفة وأما حرف شرط وتفصيل والغلام مبتدأ فكان الفاء رابطة وكان واسمها وخبرها فخشينا الفاء عاطفة وخشينا فعل وفاعل وأن وما في حيزها مفعول خشينا وطغيانا مفعول به ثان وكفرا عطف على طغيانا وجملة الجواب خبر الغلام وأسند الخشية إلى نفسه لأن اللّه أطلعه على مآل الغلام لو تناهت به المدة وانفسح الأجل، أو لأنه حكى قول اللّه. {فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْرًا مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا} فأردنا عطف على خشينا وأردنا فعل وفاعل وأن يبدلهما أن وما في حيزها مفعول يبدلهما وخيرا منه مفعول ثان وزكاة تمييز أي صلاحا وتقى وأقرب رحما عطف على خيرا منه زكاة ورحما تمييز أيضا أي رحمة بوالديه.
قال أبو حيان: وانتصب رحما على المفعول له وأجاز الزمخشري أن ينصب على المصدر بأراد قال لأنه في معنى رحمهما وأجاز أبو البقاء أن ينتصب على الحال وكلاهما متكلف. فتأمل.
{وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ} الجملة معطوفة على ما تقدم والاعراب مماثل وفي المدينة صفة ثانية أو حال. {وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحًا} الواو عاطفة وكان فعل ماض ناقص وتحته ظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم وكنز اسمها المؤخر ولهما صفة وكان أبوهما صالحا كان واسمها وخبرها. {فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} فأراد عطف على ما تقدم وربك فاعل وأن يبلغا مفعول أراد وأشدهما مفعول به وقد تقدم تفسير الأشد ويستخرجا عطف على يبلغا والألف فاعل وكنزهما مفعول به ورحمة من ربك مفعول لأجله أي لولا أني أقمته لانقض وهوى وخرج الكنز من تحته قبل أن يصبحا قادرين على حفظ المال وتنميته واستثماره ولضاع بددا. {وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} الواو عاطفة وما نافية وفعلته فعل وفاعل ومفعول به والضمير يعود على مجموع ما ذكر وعن أمري جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال أي صادرا عن أمري وإنما هو بأمر اللّه وإلهامه إياي وذلك مبتدأ وتأويل خبر وما مضاف اليه ولم حرف نفي وقلب وجزم وتسطع أي تستطع فحذفت منه تاء الافتعال مجزوم بلم وعليه متعلقان بصبرا وصبرا مفعول به.

.البلاغة:

الفنون التي انطوت عليها الآيات الآنفة لا يتسع لها صدر هذا الكتاب إذا نحن حاولنا استجلاء غوامضها واكتناه خوافيها فلنمض في استقصائها جانحين إلى لغة النظر فأولها:
1- نسيان نفسه عند ما قال: {أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها} وهو بين الراكبين وهو جدير بأن ينهمك بأمر نفسه وما هو مقدم عليه من سوء المصير وإنما حمله على المبادرة بالإنكار الالتهاب والحمية للحق فنسي نفسه واشتغل بغيره في الحالة التي يقول فيها كل واحد: نفسي نفسي، ولا يلوي على مال ولا ولد وتلك حالة الغرق تذهل فيها العقول وتغرب الأحلام ويضيع الرشد من الألباب.
2- التورية في قوله: {قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ}.
أخرج الكلام في معرض النهي عن المؤاخذة بالنسيان لإيهامه بأنه قد نسي ليبسط عذره في الإنكار وبعضهم يسمي هذا النوع من معاريض الكلام، والمعاريض جمع معراض وهو هنا إيهام خلاف المراد لئلا يلزم الكذب وهو فن ظريف من فنونهم ولعله أجمل أنواع التورية التي سبق ذكرها وقد كان المتنبي يجنح إليه في قصائده وخاصة الكافوريات قال:
برغم شبيب فارق السيف كفه ** وكانا على العلات يصطحبان

كأن رقاب الناس قالت لسيفه ** رفيقك قيسي وأنت يمان

فشبيب هذا خارجي خرج على كافور الإخشيدي وقصد دمشق وحاصرها فيقال أن امرأة ألقت عليه رحى فصرعته فانهزم الذين كانوا معه لما مات، ويقال إنه أكثر من شرب الخمر فحدث به صرع ففي ساعة القتال أتته نوبة الصرع فتركه أصحابه ومضوا فأخذه أهل دمشق وقتلوه وقد كان شبيب هذا من قيس ولم تزل بين قيس واليمن عداوات وحروب وأخبار ذلك مشهورة والسيف يقال له يماني في نسبته إلى اليمن ومراد المتنبي من هذا البيت أن شبيبا لما قتل وفارق السيف كفه فكأن الناس قالوا لسيفه أنت يماني وصاحبك قيسي ولهذا جانبه السيف وفارقه وهذه مغالطة حسنة.
ومن معاريض الكلام الحسنة قول أبي العلاء المعري في وصف الإبل:
صلب العصا بضرب قد دمّاها ** تود أن الله قد أفناها

إذا أرادت رشدا أغواها ** محاله من رقه إياها

فالضرب لفظ مشترك يطلق على الضرب بالعصا وعلى الضرب في الأرض وهو المسير فيها وكذلك دماها يطلق على شيئين أحدهما يقال: دمّاه إذا أسال دمه ودماه إذا جعله كالدمية وهي الصورة وكذلك لفظ الفناء فإنه يطلق على عنب الثعلب وعلى إذهاب الشيء إذا لم يبق منه بقية يقال أفناه إذا أذهبه وأفناه إذا أطعمه حب الفناء وهو عنب الثعلب، والرشد والغوى نبتان يقال أغواه إذا أضله وأغواه إذا أطعمه النوى ويقال طلب رشدا إذا طلب ذلك النبت وطلب رشدا إذا طلب الهداية.
ويروى في الأخبار الواردة في غزاة بدر أن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان سائرا بأصحابه يقصد بدرا فلقيهم رجل من العرب فقال:
ممن القوم؟ فقال النبي: من ماء، فأخذ ذلك الرجل يفكر ويقول:
من ماء من ماء لينظر من أي بطون العرب يقال لها ماء فسار النبي لوجهته وكان قصده أن يكتم أمره وهذا من المغالطة المثلية لأنه يجوز أن يكون بعض بطون العرب يسمى ماء ويجوز أن يكون المراد أن خلقتهم من ماء وحاشى النبي أن يكذب.
3- توكيد الضميرين:
وذلك في قوله تعالى: {قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} في قصة قتل الغلام وهذا بخلاف قصة السفينة فإنه قال فيها {أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} والفرق بين الصورتين أنه أكد الضمير في الثانية دون الأولى {أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ} وقال في الثانية {أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ} وإنما جيء بذلك للزيادة في مكافحة العتاب على رفض الوصية مرة بعد مرة والوسم بعدم الصبر وهذا كما لو أتى الإنسان ما نهيته عنه فلمته وعنفته ثم أتى ذلك مرة ثانية أليس أنك تزيد في لومه وتعنيفه؟ وكذلك فعل هاهنا فإنه قيل في الملامة أولا: {أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ} ثم قيل ثانيا: {أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ} وهذا موضع يدق عن العثور عليه بالنظرة العجيلة ولا يمكن اكتناه حسنه إلا بعد التأمل العميق وهذا فن جليل القدر، بعيد الغور، فللضمائر أسرار لا يدركها إلا الملهمون والمبدعون وهي ليست مجرد ضمائر تذكر كما ترد في كتب النحو وستأتي في كتابنا هذا صور رائعة عنه تبين مدى قدر المبين وتساميه عن الانداد.
التوكيد بالضمائر في الشعر:
وسنورد لك هنا الآن نماذج من التوكيد بالضمائر الوارد في الشعر تذهل العقول فمن بديع ما استظرفناه قول أبي تمام:
لا أنت أنت ولا الديار ديار ** خف الهوى وتولت الأوطار

فقوله: لا أنت أنت ولا الديار ديار. من المليح النادر لأنه هو هو والديار الديار وإنما مراده أن البواعث التي كانت تبعث على قبيل أنت منهم وأنت أنت ولو تأتى له ذلك الرأب صدع البيت، ومع ولا الديار في عينه من الحسن تلك الديار. وقد حاول أبو الطيب أن ينسج على منوال أبي تمام فأسف ولم يلحق به إذ قال:
قبيل أنت أنت وأنت منهم ** وجدك بشر الملك الهمام

فقوله: أنت أنت من توكيد الضميرين المشار إليهما وفائدته المبالغة في مدحه ولكنه أفسد على نفسه ما أراده لأن سبك البيت عار من الحسن وفيه تقديم وتأخير أفسداه أيضا لأنه كان من حقه أن يقول:
قبيل أنت منهم وأنت أنت ولو تأتّى له ذلك الرأب صدع البيت، ومع ذلك يبقى دون بيت أبي تمام العذب الرشيق وهذا مرده إلى الذوق وهو الحكم في هذا الباب.
وروى صاحب الأغاني: أن عمرو بن ربيعة قال لزياد بن الهبولة: يا خير الفتيان أردد علي ما أخذته من إبلي فردها عليه وفيها فحلها فنازعه الفحل إلى الإبل فصرعه عمرو فقال له زياد: لو صرعتم يا بني شيبان الرجال كما تصرعون الإبل لكنتم أنتم أنتم. فقال عمرو له: لقد أعطيت قليلا وسمت جليلا، وجررت على نفسك ويلا طويلا. فقوله: لكنتم أنتم أنتم، أي أنتم الأشداء أو الشجعان أو ذوو النجدة والبأس إلا أن أنتم الثانية تخصيصا لهم بهذه الصفة دون غيرهم كأنه قال لكنتم أنتم الشجعان دون غيرهم ولو مدحهم بأي شيء مدحهم به من وصف البأس والشدة والشجاعة لما بلغ هذه الكلمة أعني أنتم الثانية.
4- الاستعارة المكنية:
في قوله تعالى: {فَوَجَدا فِيها جِدارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} فقد استعيرت الارادة للمشارفة والمداناة ويجوز أن يكون مجازا عقليا وهذا الخلاف مطرد في كل نسبة إلى مالا يعقل كقول عمرو بن أبي ربيعة:
أبت الروادف والثدي لقمصها ** مس البطون وأن تمس ظهورا

وسنبسط لك القول في هذا البيت بسطا شافيا لتتأكد من حقيقة هذا الكلام فالإباء المنع الاختياري وقد شبه الروادف والثدي لكبرها بمن يصح منه ذلك والكلام يحتمل إرادة التشبيه فهو مجاز علاقته المشابهة فيكون استعارة مكنية تبعية وقد لا يحتمل إرادة التشبيه ويكون عبارة عن مجرد إسناد الإباء إليها للدلالة على كبرها فيكون مجازا عقليا وفي الكلام أيضا لف ونشر مشوش لأن مس البطون يرجع للثدي ومس الظهور يرجع للروادف ولابد لإظهار معنى البيت تماما من إيراد البيت الثاني وهو:
وإذا الرياح مع العشي تناوحت ** نبّهن حاسدة وهجن غيورا

يقال تناوح الجبلان أي تقابلا فالمراد بالتناوح التقابل بحيث يجيء بعض الرياح من أمامها وبعضها من خلفها فتظهر روادفها ونهودها وتلتصق الثياب بخصرها فيظهر ضموره فتنبه الحاسدة لها وتهيج الغيور لكراهية ذلك من الرياح. ومن هذا الضرب قول الحسن بن هانئ أبي نواس:
فاستنطق العود قد طال السكوت به ** لا ينطق اللهو حتى ينطق العود

شبه العود بانسان على طريق الاستعارة المكنية ويصح أن يكون مجازا عقليا على نحو ما قدمنا لك.
وقول حسان بن ثابت:
ان دهرا يلف شملي ** بجمل لزمان يهمّ بالإحسان

وجمل اسم محبوبته ويروى بعدي يقول: إن الدهر الذي يجمع شملي بمحبوبتي لدهر يهمّ بالإحسان على طريق المكنية ولفظ الهم تخييل ويحتمل أن إسناد الهم له مجاز عقلي كإسناد اللف.
5- التقديم والتأخير:
ظاهر الكلام يقتضي تأخير قوله: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها} عن قوله: {وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} لأن إرادة العيب مسببة عن خوف الغصب عليها فكان حقه أن يتأخر عن السبب والجواب على ذلك أنه سبحانه قدم المسبب على السبب للعناية به ولأن خوف الغصب ليس هو السبب وحده ولكن مع كونها للمساكين.
وفي الآية والتي بعدها أيضا أسرار عجيبة أخرى وذلك بمخالفة الضمائر فيهما فقد أسند في الأولى الفعل إلى ضميره خاصة بقوله: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها} وأسنده في الثانية إلى ضمير الجماعة والمعظم نفسه في قوله: {فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما} و{فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما} ولعل إسناد الأول إلى نفسه خاصة من باب الأدب مع اللّه تعالى لأن المراد أن ثمة عيبا فتأدب بأن نسب الإعابة إلى نفسه وأما إسناد الثاني إلى الضمير المذكور فالظاهر أنه من باب قول خواص الملك أمرنا بكذا أو دبرنا كذا وإنما يعنون بأمر الملك أو دبر ويؤيد ذلك قوله في الثالثة {فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما} فلم تأت الضمائر على نمط واحد وهذا من أرقى الأساليب وأحفلها بالمعاني الخصبة التي لا يمجها السمع وتحتويها الآذان.